فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)}.
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير النظم وجوه:
الوجه الأول:
أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] أتبعه بقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}.
الوجه الثاني:
أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد، ولهذا قال بعضهم: إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد.
وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين.
الوجه الثالث:
أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم، لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد، فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه، فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين.
الوجه الرابع:
أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم، فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني: ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم، والله أعلم.
الوجه الخامس:
أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية، وهي من أعظم الموجبات للمحبة.
فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة.
المسألة الثانية:
العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة، وأيضًا كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عار شديد فقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} وهذا لفظ عام للذكور والإناث، والمعنى: أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدًا، وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث. وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر، وقد يخاف أيضًا في العاجزين من البنين.
ثم قال تعالى: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء.
المسألة الثالثة:
الجمهور قرؤا {إن قتلهم كان خطأ كبيرًا}، أي إثمًا كبيرًا يقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثمًا قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا خاطئين} [يوسف: 97] أي آثمين، وقرأ ابن عامر: {خطأ} بالفتح يقال: أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد، ويكون الخطأ اسمًا للمصدر، والمعنى: على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب.
قال القفال رحمه الله، وقرأ ابن كثير: {خطاء} بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس. {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}.
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها، وحاصلها يرجع إلى شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، أتبعها بذكر النهي عن أشياء.
أولها: أنه تعالى نهى عن الزنا فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا} قال القفال: إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه: {فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا}.
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا؟ فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك.
وقال المنكرون: لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك، احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا، وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهيًا عنه.
وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال، فوجب أن يقال: كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا، وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها، ويدل أيضًا على أن نهي الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه، وهذا الاستدلال قريب، والأولى أن يقال: إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع، فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة، والضرب المؤلم مفسدة، وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع.
وإذا ثبت هذا فنقول: تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري، وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها.
إذا عرفت هذا فنقول: الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد: أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم.
وثانيها: أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا.
وثالثها: أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم، وكل خاطر مستقيم، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج، ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق.
ورابعها: أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت.
وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب.
وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية.
وسادسها: أن الوطء يوجب الذل الشديد، والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع، ولولا أن الوطء يوجب الذل، وإلا لما كان الأمر كذلك، وأيضًا فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة، وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد، وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن، ولولا أن الوطء ذل، وإلا لما كان كذلك.
وإذا ثبت هذا فنقول: لما كان الوطء ذلًا كان السعي في تقليله موافقًا للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل، وأيضًا ما فيه من الذل يصير مجبورًا بالمنافع الحاصلة في النكاح، أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبورًا بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر، فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة، ومقتًا في آية أخرى: {وَسَاء سَبِيلًا} أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضًا يوجب خراب العالم.
وأما المقت: فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه.
وأما أنه ساء سبيلًا، فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وأيضًا يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبورًا بشيء من المنافع، فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه؛ والله تعالى ذكر ألفاظًا ثلاثة، فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة، والله أعلم بمراده.
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لقائل أن يقول: إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولًا بذكر النهي عن الزنا وثانيًا بذكر النهي عن القتل.
وجوابه: أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود.
ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر الله تعالى الزنا أولًا ثم ذكر القتل ثانيًا.
المسألة الثانية:
اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، والحل إنما يثبت بسبب عارضي، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقًا بناء على حكم الأصل، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال: {إِلاَّ بالحق} فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله: {مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] {ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] «ولا ضرر ولا ضرار».
الثاني: قوله عليه السلام: «الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب».
الثالث: أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولقوله عليه السلام: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل.
الرابع: أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ} [الأعراف: 85].
الخامس: أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحًا لا لمرجح وهو محال.
السادس: أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنسانًا عاقلًا حكمنا فيه بتحريم قتله، وما لم نعرف شيئًا زائدًا على كونه إنسانًا لم نحكم فيه بحل دمه، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم.
وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} فقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ} نهي وتحريم، وقوله: {حَرَّمَ الله} إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال: {إِلاَّ بالحق} ثم ههنا طريقان:
الطريق الأول: أن مجرد قوله: {إِلاَّ بالحق} مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو؟ ثم إنه تعالى قال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بيانًا لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} وذلك الحق هو أن من قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا في استيفاء القصاص.
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصًا صريحًا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد، فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة.
والطريق الثاني: أن نقول: دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة: وهو قوله عليه السلام: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد.
فإن قلنا: إن قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} تفسير لقوله: {إِلاَّ بالحق} كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد، فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصًا لهذه الآية ويصير ذلك فرعًا لقولنا: إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وأما إن قلنا: إن قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} ليس تفسيرًا لقوله: {إِلاَّ بالحق} فحينئذ يصير هذا الخبر مفسرًا للحق المذكور في الآية، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعًا على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. فلتكن هذه الدقيقة معلومة، والله أعلم.